تجريم الإشاعات محاولة تقييم وتجديد للترسانة الجنائية المصرية في ضوء بعض المشاهدات المعاصرة

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ القانون الجنائي المساعد کلية الحقوق – جامعة المنصورة

المستخلص

رغم تلبس کافة المجتمعات قديمها وحديثها بظاهرة الإشاعات([1])، ويکاد لا يفلت أحد من خطرها، من الحاکم للمحکوم، من العالم إلى الأمي([2])، إلا أن اهتمام الأوساط العلمية بها وبتأثيراتها لم يبدأ إلا إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي السنوات اللاحقة عليها. فقد خص عالما النفس الأمريکيين "أولبورت" و"بوستمان" نشاطهما البحثي على دراسة ظاهرة الإشاعات بدءاً من تلک الفترة، وکان مقالهما المنشور عام 1945 بعنوان "الأساس النفسي للإشاعة The basic psychology of rumor" أول دراسة علمية جادة في هذا الصدد([3])، إلى أن کللا جهودهما بوضع کتاب "سيکولوجية الإشاعة" Psychology of Rumor([4])، أبانا فيه دور الإشاعة في التأثير على معنويات الجماهير، وأفکارهم وتوجهاتهم السلوکية.
ولعل أهم ما أوضحاه هذان العالمان هو أن الشائعات تنتشر أکثر في وقت الأزمات وفى الظروف الضاغطة أو المثيرة للقلق، وکذلک فى فترات التحول السياسي أو الاجتماعي. وأظهروا کذلک أن الإشاعة تنتشر وتتناقل سريعًا حين يکون هناک تعتيم إعلامي حول حدث ما، أو غموض في المواقف بشأنه أو تضليل متعمد، وکذب تمت ملاحظته بشأن ما أعلن من بيانات عن أحداث سابقة.
ولا مراء في أن بلد کمصر يمر بکل تلک الظروف؛ فهو يعاني ظروفًا ضاغطة، ويمر بتحولات سياسية واقتصادية واجتماعية کبيرة، ويصارع من أجل تجاوز مرحلة غموض المواقف والسيولة الإعلامية، التي لا يتيقن معها الجمهور صحة ما تنقله إليه الوسائل الإعلامية المختلفة. وأمام هذه الظرفية لم يکن المحيط البيئي للمصريين ليفلت من خطر الإشاعات، التي أصبحت وکأنها "فيروسًا قاتلاً سريع الانتشار" يبحث عن لقاح فعال من قبل المشتغلين بالبحث في مجال العلوم الاجتماعية عامة، والمعنيين بحقل الدراسات الجنائية على نحو خاص.
والإشاعاتأسلوبمنالأساليبالمعروفة فيمجالالحربالنفسية،  فوسائلالحربالنفسية عديدة : الدعاية، الشائعة،  الضغطالاقتصادي،  المنشورات  الإغراء،والوعد .. الخ.  وفيحربالإشاعاتلايظهرالعدوالحقيقيبصورةسافرة،ولايکشفعنبغيتهمنإطلاق الإشاعة،ولذايقعالمواطنونالأبرياءفريسة سهلة([5])، لهذا تخيرنا هذا الأسلوب موضوعًا لهذا البحث.
وموضوع کهذا يثير وبحق العديد من التساؤلات، أبسطها تحديد ماهية مصطلح الإشاعة، وبيان أقسامها، والأسباب التي تدفع إلى انتشارها، وکيف تتشکل الإشاعة. أما أهم تلک التساؤلات التي لا تخفى في موضوع کهذا، فيتصل بضوابط تجريم الإشاعات، حتى لا يتصادم التجريم مع أي من الحقوق والحريات المقررة في الدستور والقانون([6]). فالثابت أن تجريم الإشاعة نسبي، شأنه شأن تجريم کل "فعل" يرى المشرع في زمان معين إخضاعه لنص تجريم. فما يعد خبرًا من شأنه أن يمس بالنظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي والثقافي في المجتمع في زمن معين، قد لا يعد کذلک في فترة زمانية أخرى؛ فمصر في ستينات القرن الماضي، ليست بکب تأکيد کمصر المنفتحة المتحررة إعلاميًا حاليًا، ومنذ بدايات الألفية الثالثة على وجه الخصوص([7]). وإذا کانت السلطة التشريعية تتمتع بقدر کبير من الحرية في خياراتها لما ترى تجريمه، بحيث يخرج هذا الأمر في کثير من الأحيان عن الرقابة الدستورية، ما لم يتجاوز المشرع أهداف الدستور ذاته، إلا أنها عند وضع النصوص الجنائية الموضوعية تلتزم بعدد من الضوابط التي تقيد من سلطتها في التجريم والعقاب([8]).
وفي شأن تجريم الإشاعات، فإن أکثر ما يقلق في هذا الصدد هو أن يفتأت المشرع بهذا التجريم على حقوق الأفراد وحرياتهم، أو أن يجعل الوضع القانوني للفرد مأزومًا في مواجهة سلطة الدولة، والمطروح عندئذ هو کطيف يمکن الوصول إلى نموذج من التجريم يوازن بين حماية المصالح العامة والخاصة، وبين حقوق الأفراد وحرياتهم.
وکذلک فإن بحث في شأن تجريم الإشاعات لا بد وأن يتصدى للإجابة عن تساؤلات بشأن مکونات التجريم ذاته، کالتساؤل عن ارتباط التجريم بفکرة الکذب، هل تجريم الإشاعة يقتضي أن يکون الخبر الذي ينشر أو يروج له کاذبًا؟ هل يمکن تجاوز هذا الأمر من أجل إکساب التجريم فاعلية أکثر؟ ألا يقتضي تجريم نشر وترويج الإشاعات التوسع في الظروف التي ترتبط بها الإشاعات، والتوسع في فکرة الخطر الذي يرمي المشرع إلى توقيه من خلال هذا التجريم؟ هل يمکن تجاوز المفاهيم التقليدية في شأن المساهمة الجنائية عند تجريم الإشاعات، وخصوصًا في عصر الإشاعة الإلکترونية؟ هل يمکن تجاوز أدبيات الرکن المعنوي عند وضع نصوص للتجريم في شأن مکافحة هذه الظاهرة، والتي تربط بين العمد وتجريم النشر والترويج للإشاعات، بحيث يمکن الحديث عن تجريم الإشاعة غير العمدية؟ هل الإشاعة بطريق السخرية يمکن إخضاعها إلى التجريم؟ هل نحن بحاجة إلى ظروف مشددة للعقاب على الإشاعة تدرک طبيعة الظروف المستجدة في المجتمع، وتتجاوز الظروف التقليدية لنشر وتروج الإشاعات، کزمن الحرب أو أعمال الإرهاب مثلاً؟.