الولاية الجنائية العالمية (دراسة مقارنة)

نوع المستند : المقالة الأصلية

المؤلف

أستاذ مساعد بقسم القانون الجنائي کلية الحقوق – جامعة المنصورة

المستخلص

المبادئ هو تکريس لإرادة وسيادة الدولة على المستوى الدولي حفاظًا على مصالحها الخاصة.
بيد أن معايير الاختصاص القضائي التي تشي بها هذه المبادئ التقليدية تکشف عن أن المصلحة محل الحماية لا تعدو إلا أن تکون مصلحة الدولة بذاتها أو مصلحة مواطنيها کمجني عليهم، أو الحيلولة دون إفلات رعاياها من العقاب حال ارتکاب جرم خارج الإقليم الوطني دون أن يحاکموا ويستوفوا عقابهم في الخارج؛ فهي بالجملة مصالح فردية للدولة، الأمر الذي لا يتجاوب البتة مع ما ظهر من مصالح دولية مشترکة تتجاوز في العادة حدود الدولة وارتباطاتها بالجناة أو المجني عليهم في الجريمة، ويأتي على رأسها حفظ السلم والأمن العالمي الذي يعد وبلا جدال من أهم المصالح الجوهرية والقيم الحيوية التي يحرص عليها المجتمع الدولي المعاصر، الأمر الذي يقتضى أحيانًا مد فکرة الاختصاص الجنائي للدولة خارج هذا الإطار التقليدي في فکرة الاختصاص القضائي الجنائي.
وهکذا برزت إلى السطح فکرة منح الدول في إطار اختصاصها الداخلي لمحاکمها الجنائية صلاحية تتبع وملاحقة مرتکبي بعض الجرائم ذات الطابع الدولي شديدة الجسامة والتي تقع عدوانًا على المصالح المشترکة للجماعة الدولية([1])، وبالأخص الحياة الإنسانية، والکرامة الإنسانية والسلامة الجسدية، بغض النظر عن مکان ارتکاب الجريمة أو جنسية أطرافها، جناة أو مجني عليهم؛ فکل ما قد يلزم في منح هذه الصلاحية للدولة هو أن يتم القبض على مرتکب الجريمة على الإقليم الوطني. ولقد أصبح هذا النمط من الاختصاص - الذي أسماه الفقيه الفرنسي Donnedieu de Vabres عالمية الحق في العقاب L’universalité du droit de punir» - أو مبدأ الاختصاص الجنائي العالمي([2]) Le principe de la compétence universelle، قرين مسئولية الدول جمعاء في تتبع الجرائم الدولية والحيلولة دون إفلات مرتکبيها من العقاب، دون أن يخل کل ذلک بما للمحاکم الدولية من اختصاص في هذا الشأن([3]). 
وخلال صفحات هذا البحث سوف نطرح عدة تساؤلات حول إعمال مبدأ الولاية الجنائية العالمية، أهمها: بيان الأساس القانوني الذي يبنى عليه التکريس الوطني لهذا المبدأ في التشريع الجنائي الداخلي، وتبيان شروط إعماله في ضوء التجارب التشريعية المقارنة، وتحليل النطاق الذي يمکن أن يمتد إليه تطبيق هذا المبدا، ثم أي آلية يمکن اللجوء إليها عند تبني هذا المبدأ من قبل المشرع الوطني؟
ومن هنا تظهر أهمية معالجة هذا الموضوع، کون أن تکريس مبدأ الولاية الجنائية العالمية في التشريع الوطني يتدارک کل ضعف بشأن آليات الملاحقة الجنائية الدولية في تتبع مرتکبي الجرائم الدولية شديدة الجسامة. ولعل هذا الأمر يزداد بالنسبة لدائرتنا العربية، التي تشهد العديد من مناطقها الکثير من الانتهاکات المکونة للعديد من الجرائم الدولية کما نشهدها في فلسطين وسوريا ولييبا والعراق، فنکون نحن الأولى بتنبني هذا المبدأ ليکون سلاحًا بيد القضاء الوطني لملاحقة مرتکبي هذه الانتهاکات، دون حاجة إلى اللجوء إلى القضاء الأجنبي أو المحاکم الجنائية الدولية.
ثانيًا: النطاق الموضوعي للبحث:
لما کان مبدأ الولاية الجنائية العالمية يمثل خروجًا على المعايير التقليدية لاختصاص القضاء الجنائي الوطني، ويمنح الدولة سلطة ملاحقة جريمة لا تربطها بها صلة مباشرة، وقد وقعت تلک الأخيرة على إقليم دولة أخرى، فکان لزامًا أن يقتصر النطاق الموضوعي لمبدأ الولاية الجنائية العالمية موضوع بحثنا على منح هذه الصلاحية على أحوال الجرائم شديدة الخطورة التي يمثل التراخي في ملاحقتها ضررًا جسيمًا بکامل الجماعة الإنسانية والحقوق الأساسية للفرد، وهکذا کاد يتحدد النطاق الذي يباشر فيه هذا الاختصاص بتلک الجرائم ذات الطابع الدولي المحض، بأقسامها الثلاثة التقليدية المتمثلة في جرائم الحرب وجرائم إبادة الجنس البشري والجرائم ضد الإنسانية، فضلاً عن الانتهاکات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ وفي هذا الإطار أصبح يتحدد نطاق التزام الدولة في منع إفلات مرتکبي الجرائم الدولية من العقاب.